اخبار ومقالات

مجانية التعليم بين مطرقة السياسيين ومتطلبات جودة التعليم

مجانية التعليم بين مطرقة السياسيين ومتطلبات جودة التعليم د. محمد الربيعي

اعتاد العراقيون على تصريحات السياسيين حول القضايا اللاهبة من المحاصصة إلى الفساد والحرب على داعش والإرهاب،  ولكنهم لم يعتادوا أن يتحدثوا حول التربية والتعليم، إلا أن لكل قاعدة شواذها،  فما أن طل علينا السيد علي الأديب بتصريح صادم يثير الجدل حول إلغاء مجانية التعليم (في اعتقادي أن الأديب كان يخص التعليم العالي بحديثه وليس كل التعليم)، حتى تعرض لعواصف من النقد بسبب جرأة تلك التصريحات الصادمة. لم نعتد أبداً أن يقترح أحد، خصوصا لكونه سياسيا وقياديا ووزيرا سابقا للتعليم العالي، إلغاء مجانية التعليم،  فهي خط أحمر عند الساسة لم يتطرق أحد إليها ولم نسمع أو نقرأ أن التعليم العالي في تاريخه الحاضر درس الفكرة بالرغم من كونها لم تترك أية وسيلة للتمويل الذاتي دونها إلا وتبنتها.

وكان آخرها فكرة “الجامعة المنتجة”، وهو ما عني به تحويل الجامعات من مؤسسات “منتجة للمعرفة”، إلى مؤسسات “منتجة للبضائع والسلع”، ومنها معجون الطماطم والألبان لتساعدها في توفير أموال لا تتمكن الدولة من توفيرها، وهي فكرة طرحت في زمن الأديب، و ترسخت في عهدنا الحاضر، فأصبح لها جيش من الأكاديميين يدعون إليها ويسعون لتطبيقها. 
الأديب قيادي سياسي يتسم بالهدوء ويستمع إلى متحدثه خصوصا إذا كان من أصحاب المعرفة العلمية والتربوية تسنّم وبدون خبرة سابقة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لأربع سنوات، حاول فيها أن يترك بصماته على التعليم سلبا أو إيجابا باتخاذ عدد من الإجراءات منها ما يتعلق بالتوسع الأفقي وذلك عبر تحقيق زيادة هائلة وسريعة في عدد الجامعات الرسمية والأهلية والكليات والاقسام وإحداث تغيرات كبيرة، ومربكة أحيانا في صفوف القيادات العليا للجامعات، وكذلك في زيادة عدد البعثات للخارج وفي توسيع الدراسات العليا والإهتمام بالبحث العلمي وتمويله. ولكن هذه الإجراءات لم تكن ترتقي الى الإصلاح ولا إلى التغير الجذري، ولربما ساهمت إلى درجة كبيرة في تعميق أزمة التعليم العالي وانتشار الفساد الأكاديمي لأنها كبقية الإجراءات التي اتخذت منذ تأسيس الوزارة في عام 1971، لم تكن تهتم كثيرا بتحسين النوعية وجودة التعليم والبحث العلمي. واكتفت بما هو كمي وبدون أن ترافقها دراسات عن سوق العمل والمجتمع.  ما تميز به الأديب في تلك المرحلة هو اهتمامه بالتعليم الأهلي والخاص وبالأفكار الجديدة والمعارف الغربية،  وبرغم ذلك لم يكن ليتمكن من طرح موضوع إلغاء مجانية التعليم في الجامعات الرسمية خلال وجوده على رأس المسؤولية. ولم يكن للموضوع أن يثير هذا الاهتمام الواسع في يومنا هذا ويغضب القاصي والداني، لو لم يكن الأديب قياديا كبيراً في الدولة.  
بعد هذه المقدمة،  دعونا نناقش موضوع إلغاء مجانية التعليم التي أثارها الأديب ولنقاشها بصورة علمية تربوية موضوعية، وبدون تعصب لهذا الموقف أو ذاك. التعليم الاولي يسير حثيثا نحو الخصخصة وذلك بانتشار المدارس الأهلية والتي هي بصورة عامة على عكس ما موجود في التعليم العالي أحسن “نوعية” من تعليم المدارس الحكومية. أنا لا أعتقد بإمكانية أن يصبح التعليم الأولي غير مجاني في العراق لخطورة هذا الإجراء القصوى على الشرائح الفقيرة وعلى ازدياد الأمية، إلا أنه من المحتمل أن يحصل مع التعليم العالي أو جزء منه. مع وصول عدد طلبة الدراسات الأولية في الجامعات إلى أكثر من نصف مليون طالب، فإن القدرة المادية للدولة العراقية على توفير التعليم المجاني لهذا العدد الهائل من الطلبة تكون ضعيفة جدا كلما ازداد عدد الطلبة في الجامعات خصوصا في وقت تشح فيه موارد الدولة المالية ويستهلك الموظفون معظم هذه الموارد. لربما يبدو أن الحل الابسط لتقليص النفقات هو استيفاء أجور دراسية،  خصوصا أن المعرفة أصبحت سلعة عالمية وأن معظم الجامعات العالمية تستوفي أجورا بصورة أو بأخرى، ولكن ألا يبدو أن مثل هذا الإجراء قد يستهدف الشرائح الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود؟ 
إن طرح موضوع مجانية التعليم بدون معالجة التدني في مستويات التعليم يخلق تشويشا في الأولويات ويخلط “الحابل بالنابل”، لأنه ليس صحيحا أن يدفع “الزبون” ثمنا لبضاعة فاسدة. هل يجب أن يدفع الطالب ثمنا للحصول على شهادة لا تؤهله لاحتياجات سوق العمل؟ هل يجب أن يدفع الطالب ثمنا لمجرد حفظ وترديد كمية محددة من المعلومات؟ هل يجب أن يدفع الطالب ثمنا لعدم كفاءة الأستاذ؟ هل مستوى الشهادة تتناسب مع مقدار تعلم الطالب من المعارف والمعلومات والمهارات؟ هل يوجد ثمن لمجرد جلوس الطالب على مقاعد الدراسة؟ هل يوجد ثمن لفساد التدريسي والإداري وضياع الطالب ونقص معارفه؟
إن مجانية التعليم العالي يجب أن تفهم على أساس مقدار ما يتعلمه الطالب من معارف ومعلومات ومهارات مفيدة له وللمجتمع مقابل ما يدفعه من أموال للحصول على الشهادة الأكاديمية، أو المهنية التي تؤهله لدخول سوق العمل الوطني والعالمي. هل الدولة توفر تعليما عاليا يستحق أن تدفع أجور مقابل الحصول عليه من قبل الطلاب؟ الجواب على هذا السؤال هو كلا، والأمثلة كثيرة على انعدام الكفاءة عند الخريج اوانعدام الحاجة له، وإذا أرادت الدولة أن توفر أموالها،  فما عليها إلا بغلق عدد كبير من الدراسات الأكاديمية أو في تحديد عدد المقبولين فيها وفي دمج الأقسام والكليات المتشابهة وغلق الجامعات الجديدة التي لا تمتلك حتى مؤهلات مدرسة ثانوية والتخلص من التضخم الهائل في عدد الموظفين والتدريسيين، وهنا لابد لنا من التذكير أن 80% من ميزانية وزارة التعليم العالي هي رواتب للموظفين والتدريسيين مقارنة بمعدل 50% من الميزانية التشغيلية في الجامعات الغربية، ولربما أيضا من المهم للدولة لكي يتم تقليص النفقات تبني سياسة جديدة تؤكد على أن التعليم العالي ليس حقا للجميع وإنما حق للمؤهلين فقط. 
ما يؤكد مخاوفي بخصوص عدم قدرة الدولة والوزارة أو الجامعات في مجابهة التحديات التي تواجه التعليم العالي، هو ضعف المعارف والمؤهلات اللازمة لتشخيص المخاطر وتحديد أولويات الإصلاح والتغيير. ألا ترى الدولة في أن المشكلة الحقيقية لتردي التعليم تعود إلى عقلية التلقين والحفظ، وليس إلى مجرد التمويل؟ متى ما تتمكن الدولة من توفير تعليم عالي حقيقي، فإنه يمكن مناقشة مسألة الأجور وآلياتها وطريقة استيفائها وتسديدها. وكما يقال لكي لا نحجب الشمس بغربال، أجد نفسي مضطرا إلى التأكيد على كون مجرد استحصال أجور للدراسة لن يحل مشكلة عدم كفاءة الخريجين وعدم ملاءمتهم لسوق العمل. الجامعات والكليات الأهلية التي تستوفي أجور أفضل مثال على تردي مستويات التعليم والتعلم والضعف (وأحيانا انعدام) مؤهلات الخريجين بحيث أصبحت أضرارها وخطورتها أكبر من أهميتها، وأصبح الصمت عن هذه الأضرار تخلياً عن المبادئ الأساسية التي آمنتُ بها واقتنعتُ بها، وطرحتها في كل مناسبة بدافع أصلاح وتطوير منظومة التعليم العالي، خصوصا ونحن نجتاز في الوقت الحاضر مرحلة حاسمة ودقيقة من تاريخنا المعاصر ضد التحديات والمعوقات التي تعترض مسار الجامعات العراقية وصولا إلى ما تستحقه من تقدم ورقي. هل نريد عبر إلغاء التعليم المجاني تعميم المشكلات الرئيسة للتعليم الأهلي المتمثلة بالانتهازية والنفعية والربحية في مجتمع تقلصت فيه أدوار الجامعة في بناء الانسان، ويمر في أزمة أخلاقية واسعة النطاق فيه تتفكك منظومة الوحدة الوطنية بمفاهيم الطائفية السياسية والعرقية، ويتسع فيه حجم الفساد الإداري والمالي لدرجة رهيبة؟
إذا كان إلغاء التعليم المجاني سيؤدي إلى صفوف ذات أعداد قليلة من الطلبة، وبناء أقوى لشخصية الطالب، ومستوى عال من العلاقات الشخصية بين الأساتذة والطلبة، وتعليم وتعلم على ضوء متطلبات ضمان الجودة والإعتماد الدولي، ونشاطات متنوعة لتنمية قابليات الطالب المهنية والاجتماعية والمهارات، واحتمالات أعلى لحصول المتخرج على عمل أفضل،  فإني لن أكون ضد استحصال رسوم تستوفيها الجامعات الرسمية من الطلبة المتمكنين ماديا. إلا أنني أشك في ذلك للأسباب التالية:
1- انعدام الإستقلالية وضعف الحريات الأكاديمية ووقوع الجامعات في مأزق “المقّرر والمنّفذ” بعدم تعامل الوزارة مع كل جامعة باعتبارها مؤسسة ذات اعتبار ذاتي.
2- ضعف المعرفة وانغلاق الجامعة على نفسها واستمرار هيمنة “عقلية الحصار”.
3- انفصام الجامعة عن المجتمع واحتياجات سوق العمل.
4- هيمنة الطرق البيداغوجية التقليدية في التربية والتعليم. 
5- ضعف المنافسة الموجودة حاليا بين الجامعات العراقية.
6- انعدام الثقة عند التدريسيين من خلال عدة مظاهر كالإعتقاد بعدم كفاءة المسؤولين، والشعور بالغبن الوظيفي والتمييز ضدهم، والتخوف من المسؤولين والحذر منهم، وتأكيدهم على أن المحسوبية والمنسوبية هي طريق الحصول على منصب إداري.
7- صعوبة إحداث تغيير وتجديد في النظام التعليمي حيث المقاومة للتغيير مبنية بداخل مفاصل وهيكلية النظام. 
8- الطموحات والرغبات التي يغذيها المجتمع نحو تبوئ مسؤولية إدارية والتي تدعمها زيادة الراتب والمكافآت المالية السخية. لم أعرف أكاديميا رفض منصبا إداريا عرض عليه لأن المنصب الإداري ينظر له في العراق على أنه تكريم وليس مجرد تكليف.
9- عدم إمكانية التخلص من الفاسدين والمتقاعسين وضعيفي المعرفة والتدريب من التدريسيين والإداريين. 
من خلال ما سبق وما ذكرنا يتضح لنا أن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة جدية، بعيدا عن العواطف والمواقف السياسية، آخذين بنظر الإعتبار التجارب الدولية والظروف المحلية في ظل حالة انعدام استقلالية الجامعة واستمرار اعتماد مناهج التدريس على التلقين والحفظ والاجترار والتي بلا شك ستكون حجر عقبة نحو أي محاولة لتطوير التعليم العالي وتحسين جودته،  وسيصبح إجراء تمويل التعليم عن طريق الأجور نكسة خطيرة للتعليم العالي وعملا مكرسا لحالة التخلف التي يشهدها هذا القطاع الحيوي حاليا.

نشرت في جريدة المدى العدد (3700) بتاريخ 26/07/2016   للاطلاع عليها في موقع المدى اضغط هنا

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى