حقُ المدرسِ على الجامعةِ وحقُ الجامعةِ على المدرسِ بينَ الإهمالِ والتفعيل
حقُ المدرسِ على الجامعةِ وحقُ الجامعةِ على المدرسِ بينَ الإهمالِ والتفعيل
أ.د محمد الربيعي
كلما أفكر في أبرز الأشخاص الذين كان لهم أكبر الأثر في حياتي ومسيرتي العلمية، أعود -من دون تردد-إلى أيام الدراسة في الجامعة. لا زلتُ أتذكر على وجهِ الخصوص المرحوم الدكتور فخري البزاز الذي حبَّب لي العلوم البيولوجية والبحث في مجالها. كان له ولكثير من أساتذتي كالدكتور بدري العاني والدكتور غازي درويش تأثير إيجابي كبير على حياتي العلمية استمر حتى يومنا هذا.
تجربتي في التعلم من أساتذة متميزين، إلى جانب وجودي في جامعة متميزة كجامعة بغداد، هي التجربة التي يجب أن يحظى بمثيلها كل فرد من آلاف الطلبة اليوم في الجامعات العراقية. ليس فقط لأن التدريس من قبل أساتذة جيدين يجعل من أيام الدراسة أيامَ تحدٍ وتحفيزٍ ومكافأةٍ للطلبة، ولكن لأن النوعية العالية للتدريس تمّكن مؤسسات التعليم العالي لدينا من تخريج طلبة ذوي تفكير نقدي وابداعي يُسهمون في بناء مستقبل بلادنا على نحو فعال.
ومع ذلك، في حين أنه ينبغي أن يكون مستوى ونوعية التدريس مركز الثقل في التعليم العالي، غالبا ما يتم تجاهله في الجامعات والكليات واعطائه أهمية أقل من مجالات العمل الأكاديمي الأخرى، لهذا السبب كنت أؤكد دائما على أهمية جودة التعليم والتعلـُّم عندما أكتب أو ألقي محاضراتٍ حول تحديث التعليم في العراق، وأضعهما في قمةِ الاولويات في جدول الأعمال من أجل التغيير والتطوير.
اننا بحاجة إلى تغيير في العراق، لكننا نواجه تحدياتٍ كبيرةً قد لا يمكن التعامل معها بصورة منفردة: داعش وخطورتها على وحدة العراق وأمنه، الأزمة المالية، التناحر بين المكونات القومية والاجتماعية والمذهبية، البطالة -خاصة بين صفوف الشباب -وتجاهل متطلبات سوق العمل، لذا لم يعد من الممكن للتعليم في العراق أن يستريح على أمجاد الماضي، بل نحن بحاجة إلى أن تصبح مدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا العلمية والثقافية أكثر تطلعاً إلى الخارج، أكثر ابتكاراً لوضع مجتمعنا على أُسس مستدامة للمستقبل.
أي أننا نحن لسنا بحاجة الى خريجين “حفّاظين”، بل بحاجة الى خريجين مبدعين ومبتكرين متحلين بقابلياتٍ ومهاراتِ عملٍ وقيادةٍ وريادةِ الأعمال، للتمكن من مواجهة تحديات بيئة العمل المتغيرة اليوم باستمرار. وهنا يلعب الاستاذ دوراً مهماً، فمهما كانت معلوماته غنية ومادته التدريسية متخومة بالمعلومات العلمية فإنها ليست بذات أهمية لبناء قابليات الطالب إذا ما كان أداؤه يعتمد على التلقين واجترار المعلومات فقط.
هذه هي الرسالة الرئيسة التي أُوجهها الى اصحاب القرار والمسؤولين الاداريين والى قيادات الاصلاح التربوي. ولهذا السبب اكدت سابقا وفي عدد من المرات على اصلاح التعليم العالي لدرء انخفاض الكفاءة التعليمية والتدريبية و”الجودة”، وإيقاف الزيادة في الفاقد التربوي المرتبطة بنشوء الجامعات الحديثة، والذي يتطلب نهجا تربويا وإداريا وتعليميا مغايرا لما هو قائم حاليا، وليتمكن خريج الجامعة في يومنا هذا من ممارسة مهنته بصورة متقنة وليتمكن من تنمية قدراته وقابلياته لكي يتقن مهنته.
ليس غريباً ان تدور بداخل المجتمع العراقي أحاديث وادعاءات حول عدم كفاءة المعلم، وتخلـُّف معلومات الطبيب، وضعف رصانة المحامي، وتلاعب الصيدلي! أليس من واجب الجامعات ان تكسب ثقة الناس بمنتوجاتها حالها حال أية شركة صناعية لإنتاج البضائع الاستهلاكية؟ من المسؤول عن قياس جودة البضاعة؟ وإذا كانت البضاعة غير ملائمة او ليست بالجيدة، فمن المسؤول عن غلق المعمل؟
عمل الجامعات في المقام الاول هو في مجال التنمية البشرية حيث يتوجب عليها التركيز على تطوير وتعزيز قدرات طلبتها في مجال المهارات بوضوح، وعلى نحو فعال وليس فقط في مجال نقل المعلومات بالتلقين والاجترار.
ولتحقيق هدف التحديث فإن برنامج التعليم العالي يجب ان يوفر إطاراً شاملاً لسياسة وطنية ترتكز على مستويات التحصيل، والجودة، والابتكار، والتنمية، والتمويل، والإدارة. هذه هي التحديات التي تواجه العراق، مهما كانت نقطة الانطلاق في برنامج التحديث.
ولكن إلى جانب الاهداف الكمية، يجب أن تكون نوعية التعليم والتعلم في صميم جدول أعمال ترصين التعليم العالي لدينا، مع التركيز على المناهج التي تقدم مهارات ومعارف ترتبط بما يحدث في العالم، وان تكون ذات صلة وثيقة بما يحتاجه سوق العمل، وتشكِّل أساساً للتعلـُّم المستمر من قبل الخريج.
تحقيق هذه الاهداف مهمة ليس سهلة، لذلك ارجو ان ينجح المؤتمر في بحث سُبل تعزيز جودة التدريس والتعلم، وفي الوقت ذاته دراسة السُّبل لتحقيق متطلبات طلبة يدخلون الجامعات من خلفيات متعددة ذوي مستويات واهتمامات مختلفة بسبب التفاوتات الكبيرة والضعف في التحصيل اثناء فترة التعليم الثانوي واعتماده على التلقين والحفظ. ارجو ان نتمكن من معالجة السياسات التي تهتم بالقضايا الأكثر إلحاحاً في التعليم العالي اليوم، لتتحول النتائج إلى توصيات واقعية وقابلة للتطبيق في مؤسسات التعليم العالي.
وفي هذا الوقت المضطرب أمنيا واقتصاديا يجب علينا تأكيد نقاط قوتنا والدعوة الى التماسك المجتمعي والروح التضامنية، والمساهمة في رسم مستقبل أكثر رسوخاً وأماناً للمواطنين. سيعتمد مستقبل العراق بشكل خاص على عملنا الجمعي والجهود المبذولة لتحسين نوعية التعليم بشكل عام والتي لا بد أن يخصص قسم منها للأعمال التطوعية.
إنني مؤمن تماماً أن تحسين نوعية التعليم والتعلم في التعليم العالي سيمكنه من إحداث تغيير شامل في العراق مستقبلا، لدينا مئات من مؤسسات التعليم العالي، حكومية واهلية، جامعات ومعاهد عالية، وجامعات للتكنولوجيا وللعلوم الطبية والبحوث، وجامعات كبرى واخرى صغرى حديثة. هذه المؤسسات، بجميع اختلافاتها، لها مهمة حاسمة ومسؤولية كبيرة هي تعليم شبابنا لأفضل مستوى ممكن. هذا هو واجب التدريسي مهما كانت أوضاعه الاكاديمية واسلوب معاملته من قبل الادارة ومهما كان راتبه او أوضاعه الاجتماعية.
من الضروري كإطار للسياسة الوطنية في تحسين نوعية التعليم تأكيد المبادئ التوجيهية الاساسية التالية:
- اعتبار التعلم من المهام الرئيسة للجامعة بالإضافة الى التعليم. في الواقع يجب ان تبدأ الجامعات او تكون قد بدأت بالتحول التدريجي نحو التعلم.
- مشاركة الطالب ضرورية في تقييم المناهج وضمان الجودة واجراءات المراجعة. من المفيد استبيان آراء الطلبة بغرض اكتشاف معيقات التعليم وبيئة التعلم في وقت مبكر، مما يمكنها من إيجاد حلول أسرع وأنجع للقضاء عليها، اصبحت هذه المشاركة ضرورية لأنها اساسية في عمليات التقييم لغرض الاعتماد الأكاديمي.
- التدريس هو المهمة الاساسية للأستاذ الجامعي خصوصا في ظل انعدام مقومات البحث العلمي الرصين بحيث يتم التأكيد على مهام التدريس كأساس للترقية الاكاديمية.
- على اعضاء هيئة التدريس التحلي بأرقى الاخلاق المهنية ومتابعة التكوين قصد الوصول لدرجات عليا من المهنية.
- من مسؤولية الجامعة ان يكون عضو هيئة التدريس مدربا تدريبا عاليا على مهارات التعليم والتعلم ومؤهلا تربويا للتدريس وليس لمجرد كونه حاصلا على شهادة عليا.
ومسؤولية الجامعة تمتد الى المهمات الآتية:
- تشجيع التفكير الحر.
- ترسيخ مقومات الثقة والانتماء والاعتزاز من خلال القيم الاخلاقية للعلم والشوق الدائم للمعرفة والتعلم الذاتي.
- جعل التأهيل الجامعي أكثر ملاءمة لاحتياجات سوق العمل ومستجدات التحولات التكنولوجية والاقتصادية وحاجة الدولة لإشغال الوظائف الحكومية.
- ضمانة حق الاستاذ الجامعي في حرية التفكير التحليلي -النقدي والمبادرة والتجديد.
- تمتد مسؤولية الجامعة الى التدريسيين الجدد وذلك بضمان تأهيلهم للتدريس عن طريق حصولهم على دبلوم التربية والتدريس في السنوات الاولى من حياتهم المهنية.
- وتمتد هذه المسؤولية لتوفير فرص التدريب المهني المستمر في بيداغوجيات التربية بالاضافة إلى توفير فرص للتعاون التربوي مع اساتذة في الجامعات الاجنبية.
- تتركز المسؤولية المهنية والاخلاقية للتدريسي على تفانيه لامتلاك طرق حديثة في التدريس وعلى قدرته على اداء مهمته بأفضل صورة.
- مسؤولية التدريسي تمتد طوال حياته المهنية بحيث يستمر في متابعة أفضل الممارسات التربوية والسعي للتميز في التدريس.
- يجب على كل جامعة أن تضع وتنفذ استراتيجية لدعم وتحسين جودة التعليم والتعلم، وتكريس المستوى اللازم من الموارد البشرية والمالية لهذه المهمة.
- عند تعيين او ترقية عضو هيئة التدريس يجب تقييم أدائه التدريسي.
- ينبغي تكريم ومكافأة المدرس الذي يسهم إسهاما كبيرا في تحسين نوعية التعليم والتعلم، سواء من خلال ممارساته، أو من خلال أبحاثه في التدريس والتعلم.(على سبيل المثال من خلال المنح الدراسية أو الجوائز).
وبشأن المناهج فإنه يجب أن:
- تتم على اساس هدف بناء الانسان الحضاري المتمدن المشبع بمبادئ الولاء للوطن والحرية، ونكران الذات، والمحصن ضد الفساد والمدرب على التثقيف الذاتي بالإضافة الى التحصيل العلمي الملائم.
- تأكيد بناء المناهج على اساس تحقيق مخرجات التعلم.
- بناء علاقة بين الاهداف التربوية للبرنامج ومخرجات التعلم للبرنامج ومخرجات التعلم لكل مساق.
- التأكيد على تدريس أخلاق المهنة والضمير المهني.
- التأكيد على تدريس اللغة الانكليزية كلغة اجنبية ضرورية للتواصل.
- التأكيد على تدريس المهارات كالقيادة والتعلم الذاتي والتواصل والعمل الجمعي.
- اعتماد اسلوب التعلم في مقابل التعليم والتفكير النقدي في مقابل التلقين.
(الآراء الواردة في الموضوع لا تعبر بالضرورة عن رأي الجمعية ووجهتها انما هي اراء الكاتب)