اخبار ومقالات

هل حقاً اصبحنا أمة لا تقرأ؟

هل حقاً اصبحنا أمة لا تقرأ؟

د. محمد الربيعي

من الشائع ان ترى الناس في بغداد يحملون “آي فون” ويراجعون الفيسبوك، وينظرون في عناوين الكتب والصحف، ولكن لماذا لا ترى في ايديهم كتابا ادبيا او علميا او تاريخيا او اجتماعيا وما الى ذلك، او حتى صحيفة او مجلة؟ اؤكد جهلي بماذا يفعل البغداديون حينما يجلسون في بيوتهم او في مقاهيهم او عند ركوب الباص، او خلال الانتظار عند طبيب، او مستشفى، إلا اني لن ابتعد كثيرا عن الحقيقة عندما اخمن بأنهم يقتلون الوقت بالثرثرة والحديث عن السياسة والسياسيين او عن البارشا والريال، وعندما لا يثرثرون فانهم يخفون وجوههم وراء موبايلاتهم يتلهون بتبادل اخبارهم وصور مأكولاتهم وقراءة الادعية وكتب الشكر الرسمية الى جانب مشاهدة القنوات الفضائية التي تستنزف معظم اوقاتهم.

 كم من استاذ جامعي وطبيب ومهندس وأديب وحامل شهادة عليا لا يقرأ الا الفيس ولا يعرف من الكتب الا الكتب “الرسمية” وملفات العمل والتقارير. كم من كتب الثقافة العامة تنشر وتترجم وتباع في وطننا، وكم منها يقرأ فعلا بدلا من مجرد وضعها على رفوف المكتبة المنزلية للتباهي بها. ما يمكنني الجزم فيه ان بين العراقيين قليلون ممن يستغلون وقتهم في القراءة وكثيرون ممن يقضون وقتهم في الثرثرة ومشاهدة المسلسلات التركية.

لم اقرأ احصائيات عن العراقيين لكن وجدت الكثير منها عن العرب وأشك في وجود فروق كبيرة بينهما. حسب الاحصائيات المتوفرة عن طريق تقرير التنمية البشرية لعام 2011 فأن معدل القراءة عند العرب (بدون تضمين قراءة القران الكريم والكتب الدراسية والصحف والمجلات) لا تزيد عن ست دقائق في السنة بينما تبلغ مدة القراءة عند الاوروبيين 200 ساعة سنويا. وبينما يقرأ 80 عربيا كتابا واحدا في السنة يقرأ الاوروبي 35 كتابا سنويا، وهذا يؤكد وجود هوة ثقافية هائلة بيننا وبين الاوروبيين. لقد بينت دراسة اخرى اجرتها احدى شركات ابحاث السوق نتائج اكثر ايجابية بالنسبة للعرب فقد اظهرت أن اللبنانيين يقرؤون 117 ساعة في السنة والمصرين 108 ساعة والسعوديين يقرؤون 75 ساعة سنويا ولكن هذا لم يكن ليحدث لو ما تم تضمين قراءة القران الكريم والكتب المدرسية والصحف والمجلات في حساب معدل القراءة، ولهذه الارقام دلائل تشير الى اهمية الدين والمدرسة في حياة الفرد العربي. 

كان يقال في الماضي ان مصر تؤلف ولبنان يطبع والعراق يقرأ واصبحوا اليوم يشتركون في اهمالهم للتأليف وطبع وقراءة الكتب واصبح جل اهتمامهم في مواقع التواصل الاجتماعي ومشاهدة المسلسلات الترفيهية والابحار في الانترنت لمشاهدة افلام الجنس. فانطلاقا من الاحصائيات العالمية نرى ان العالم العربي لا ينشر سنويا سوى كتاب واحد لكل مليون شخص في حين انه في اوروبا ينشر سنويا كتابا لكل 5 الاف شخص. وتزاد الهوة بيننا وبين الاوروبيين عندما نأخذ بنظر الاعتبار عدد النسخ المطبوعة لكل كتاب فبينما لا تزيد في الدول العربية عن الآلف او الالفين، يتجاوز عدد النسخ المطبوعة لكل كتاب في الغرب 50 الف نسخة.   

فالى متى نؤجل التفكير في هذا الواقع الكارثي ونستمر في وضع رؤوسنا في الرمال كالنعام والى متى نستمر في عدم الاكتراث لانهيار منظومة التعليم ونسيان قضية التربية والتثقيف وإهمال العقل والاهتمام بالتلقين والى متى نستمر في اهمال تربية الطفل ليكون مؤهلا لاستيعاب موارد المعرفة الانسانية ومنتجات الفكر الانساني من فلسفة وأدب وعلم وتكنولوجيا.

لربما اذا نظرنا الى الاسباب التي تمنعنا من القراءة وجدنا ان التربية المدرسية والاسرية والدينية من اهم الاسباب التي تقف وراء تراجع معدلات الاطلاع الثقافي والقراءة في بلداننا العربية. نحن تعودنا على التلقين واجترار المعلومات فالحفظ في بلداننا يقود الى التفوق في المدرسة والنجاح في الحياة والاجتهاد في المجتمع. طرق التدريس القديمة المبنية على التلقين وفلسفة التعليم البالية، وأساليب التدريس لم تتغير. وما زالت قابليات ومعارف ومهارات الطلبة تعتمد بالأساس في تقييمها على مقدار ما تعلمه الطالب مما كان يدّرس والذي يتجلى في نهاية السنة الدراسية بصورة ما حفظه الطالب واجتره في الامتحان. 

الواقع الكارثي يتجلى في قضاء الطالب لمعظم وقته في قراءة بضعة كتب مدرسية ليضمن افضل فرص النجاح في الحياة بحيث اصبح شائعا ان قراءة كتاب 50 مرة لهي افضل من قراءة 50 كتابا مرة واحدة و هذا لن يسود إلا لاننا شعب يمجد ما نحفظه اكثر مما نفكر ونعمل به. تشكل عملية التلقين والحفظ كارثة لمجتمع الثقافة وتؤدي الى عزوف الشاب عن قراءة الكتب الثقافية حيث تغرز في نفسه الكراهية للكتاب نتيجة الملل من الترديد والاجترار وتدفعه الى النفور من القراءة واللجوء الى وسائل اللهو والاطلاع السطحي عن طريق التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي. مدارسنا تنتج “متعلمين جهلة” و “عقول مغلقة”، لأسباب عديدة تظهر نتائجها في عجزنا عن حل مشاكلنا، وفي الهروب من الحاضر ومحاولة الالتصاق بالماضي والتي تتجلى باشكال اجتماعية مرضية مختلفة، منها الطائفية والعشائرية وكثير من العادات والأعراف والتقاليد البالية. 

الكتب المدرسية محدودة وما توفره للطفل من ثقافة نزر يسير ولا توجد كتب اخرى كثيرة متوفرة للطفل لتزيد من معلوماته، والاحصائيات تبين بوضوح هذا الجدب في مصادر ثقافة الطفل فمجمل عدد الكتب المؤلفة سنويا للطفل العربي لا تزيد على 400 كتاب في حين انه يتوفر كل سنة اكثر من 13 الف كتاب للاطفال في اميركا و اكثر من 3800 كتاب للاطفال في بريطانيا واكثر من 2100 كتاب للاطفال في فرنسا. في الغرب يهتمون بتنشئة الطفل في بيئة تحب القراءة وتحب الكتاب وعلى اساس بناء شخصيته المستقلة القادرة على أخذ القرار وعلى التفكير النقدي الحر بينما نحن نهتم بالتلقين وترديد المقولات الجاهزة ونتطيّر من التجارب لينشأ الطفل على ما يغذيه به اولياء أمره من موارد محدودة لنموه العقلي وليكتمل اغلاق عقله باهماله للتفكير النقدي والذي هو بمثابة الكفر عند كثير من الناس ومثلهم الذي يقتدون به هو (لا تفكر فلها مدبر).  من جانب آخر يطرح التساؤل عن اهمية وجود كتب ثقافية للاطفال في وضع لا يسمح لهم بالاستفادة منها لانهم مشغولين بقراءة الكتب المدرسية واستذكارها واية قراءة اخرى ستبعدهم عن تحقيق هدفهم الاسمى الا وهو الحصول على اعلى الدرجات الامتحانية.

اننا اليوم امام تحد كبير لكي نلحق بركب الدول الحضارية مما يتطلب بذل جهود استثنائية ووضع مشروع “مارشال” لثورة ثقافية وفكرية تقع مسؤولية تحقيقه على الدولة والمجتمع وكل من يستطيع تغيير الواقع نحو الافضل، وتقع اساليب تنفيذ المشروع على عاتق وزارات الثقافة والتربية والتعليم العالي. اهمية الثورة الثقافية لا تتجلى في القضاء على التخلف المعرفي والفكري فقط وانما ايضا لمواجهة التطرف والارهاب باعتبارهما فكرا متخلفا ومنحرفا يتطلب مواجهته بالفكر والرأي. تتجلى المبررات الفكرية لهذه الدعوة في النقاط الاساسية التالية:

1- كثير من السلوكيات في مجتمعنا تشير الى مدى التخلف واسبابها تعود الى الاساليب البالية في التربية والتعليم.

2- استمرار اساليب التدريس القديمة في المدارس والجامعات والتي تعّود الطالب على الاستجابة والخضوع ، والى تقبل الخرافة والتقاليد البالية وتشجعه على الغش بأشكاله المختلفة، وتخلق منه انساناً متخلفاً غير واعٍ وغير ناقد مما يمكن لأي سياسي او “قائد” ان يتحايل عليه، لأنه ببساطة لا يتعلم ان يفكر وينتقد. وهذا ما يؤدي الى جعل الانسان اكثر استعدادا لتقبل القهر السياسي والخضوع للسلطة والى تكريس الاستبداد وتشجيع الارهاب والتطرف.  

3- هيمنة القنوات الفضائية على كل مجالات حياة الانسان العراقي يكرس بؤس الحالة الثقافية في العراق حيث توجد حوالي 500 قناة فضائية عربية تمثل القنوات الدينية حوالي 20% منها وقنوات الاغاني 18% بينما لا تزيد نسبة القنوات الثقافية عن 5%.

4- تشويه الهوية الثقافية للمجتمع، وانهيار قيمه، وتكريس الفساد المالي والاجتماعي وتمجيد العنف وانتشار الارهاب والاستغلال وظهور مظاهر التمييز بين المواطنين على اساس هوياتهم القومية والطائفية.  

اما مقومات المشروع فيمكن تلخيصها بالنقاط التالية:

1- استبدال نظام التربية المبني على التلقين والحفظ والذي لم يعد يتماشى مع التطورات التربوية العالمية في يومنا الحاضر بنظام يؤكد على الأساليب التربوية التي تشجع على الفهم والتفكير المستقل والتساؤل والبحث والتجريب والنقد والعمل الجماعي.

2- اقامة جسر ثقافي حقيقي بين الانتاج الثقافي والشباب من الراغبين بزيادة معرفتهم وتوسيع افكارهم وتوفير الكتب الثقافية بصورة مجانية وانشاء المكتبات والمنتديات الثقافية ونوادي القراءة.

3- تحقيق مشروع لتأليف وترجمة الكتب العلمية والادبية والثقافية يتم فيه توفير ما لا يقل عن خمسة آلاف كتاب في السنة. ويتم زج اساتذة الجامعات في هذا العمل الجبار لكي يصبح التأليف والترجمة من واجبات التدريسي ومن شروط الترقية العلمية الاساسية.

4- يتم تجهيز المدارس بمكتبات ملائمة ويعتبر هذا العمل حقا ثقافيا من حقوق الطفل والطالب وشرطا من شروط تأسيس المدرسة الحكومية والأهلية.

5- تشجيع القراءة بين النساء عن طريق زج منظمات المجتمع المدني في حملة جماهيرية تتمثل في اقامة منتديات القراءة للنساء ومهرجانات الكتب والصحافة النسائية، وتطوير الميول الفنية للنساء كالرسم والتصوير والموسيقى والخطابة والكتابة.

المقال منشور في جريدة المدى العدد 3662 بتاريخ 03/06/2016

(الآراء الواردة في الموضوع لا تعبر بالضرورة عن رأي الجمعية ووجهتها انما هي اراء الكاتب)

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى