اخبار ومقالات

عام على انتهاء معارك الموصل: مآسي لم تنته بعد

عام على انتهاء معارك الموصل: مآسي لم تنته بعد

ابراهيم شيرخان – مسؤول الاعلام الرقمي في اللجنة الدولية في العراق

كانت رحلاتي إلى مدينة الموصل تمر غالبًا عبر مدينتي بعشيقة وسنجار. لم يكن من الصعب الوصول إليها، ولكن بمجرد تذكر إشارات الطريق إلى تلك المدن عندما أقصدها الآن، تحضرني ذكريات وقصص ناسها وما عانوه خلال الحرب الطاحنة التي انتهت قبل عام وفي نزوحهم عنها.

لكل رحلة طريقها وظروفها الخاصة، سواء كان ذلك في فترة اشتداد المعارك في تلك المدن أو بعد استعادتها. وكوني موظفًا في اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تكفل الحماية الإنسانية وتقديم المساعدات إلى ضحايا الحرب، كنت من أول الأشخاص الذين دخلوا إلى هذه المدن مع فرق من اللجنة الدولية خلال الحرب وبعد استعادتها.

لم تكن المرة الأولى التي أذهب فيها إلى الموصل بعد المعركة، ولكن في كل مرة تنتابني مشاعر وأحاسيس مختلفة. لم أكن خائفًا عند تصويري للحالات الإنسانية ولقصص الذين نزحوا تحت أزيز الرصاص خلال المعارك أو لمشاهد وصولهم إلى مستشفى الموصل العام، حيث كان الفريق الطبي الخاص باللجنة الدولية متمركزًا.

لكن ما كنت أخشاه، مع انتهاء اليوم، هو كيف سأنام وعقلي يأبى أن ينسى زينب وأحمد وفرهاد وغيرهم ممن ماتوا أمام عينيَّ في المستشفى وهم يحاولون التشبث بالحياة. كل مرة أذهب فيها إلى الموصل أتمنى أن تكون تلك آخر مرة أتذكر فيها هذه القصص مقرونة بأصوات القصف وصريخ العوائل وبكاء الأطفال، وما يقترن بها من لحظات صعبة مررت بها معهم.

شخصان لا أستطيع نسيانهما في حياتي، فرهاد وزينب.

كان فرهاد شابًّا يبلغ من العمر 19 عامًا هرب من المعارك فأضاع عائلته خلفهُ ولم يكن يعلم مصيرهم. أصيب فرهاد بشدة في أنحاء متفرقة من جسده نتيجة لتعرضه لشظايا الانفجارات من حوله. لكنه بقي مبتسمًا ويتكلم معي بطريقة عفوية عن هروبهِ من المعارك ومن تحت المواجهات ومن بين السيارات المفخخة، وكأنهُ يقول: «ها قد كُتبت لي الحياة مرة أخرى ولا أريد أن أضيعها برغم فقدان عائلتي».

لم يشكُ فرهاد من آلام جراحه، لكن مشكلته الوحيدة كانت سؤاله الدائم عما يمكن أن يكون قد جرى لعائلته. لا أعلم ما الذي حل بعدها بفرهاد، هل وجد عائلته؟ في الموصل قصص كثيرة كقصته.

في يوم دامٍ آخر من أيام الموصل، وعند وجودي في مستشفى الموصل العام، أتت سيارة إسعاف تحمل طفلة انتشلت من تحت الأنقاض. لم أكن أعلم أن هذه الطفلة هي آخر فرد من عائلة مكوَّنة من عشرة أشخاص ماتوا بسبب قصف منزلهم داخل أحد أحياء مدينة الموصل.

كان اسمها زينب، طفلة في الحادية عشرة من عمرها. زينب كانت الناجية الوحيدة مع خالها، الذي أخرجها من تحت أنقاض بيتهم المهدم بالكامل ونقلها إلى المستشفى خلال معارك الموصل القوية التي حدثت منتصف العام 2017. لم يتمكن الأطباء من إنقاذها… زينب فارقت الحياة. لم أستطع أن أعبر عن مشاعري غير بالنظر إلى عيني خالها باكيًا بلا دموع. فلا كلمات يمكنها أن تصف مشاعري في تلك اللحظات الصعبة.

«زينب فارقت الحياة. لم أستطع أن أعبر عن مشاعري غير بالنظر إلى عيني خالها باكيًا بلا دموع».

لم أنسَ ولن أنسى قصص الموصل وما حدث فيها. فبالرغم من أن الروح عادت الآن إلى المدينة، إلا أنني لا زلت أتذكر اللحظات الصعبة التي مرت بأهلها. فأتذكر ما حصل لهم وهم يروون قصصهم ومآسيهم وخاصة العنف الدامي في الزنجيلي، التي تكفي وحدها لشرح ما حصل. فقد قُتل في مدينة الزنجيلي أكثر من 300 شخص في يومٍ واحد وهم يحاولون الهرب من رصاص القناص المتمركز على سطح المستشفى الجمهوري. أطفال وشباب ورجال ونساء كبار في السن.

كنتُ في مستشفى الموصل العام عند حدوث أعمال العنف. قليلون من استطاعوا الهرب من رصاص القناص ليصلوا إلى المستشفى وهم يروون قصص هروبهم المروعة. حتى يوم استعادة الزنجيلي زرتها، سمعت قصص نازحيها ممن عادوا إليها وهم في أسوأ حال. بقيت شوارعها خاوية بعد مذبحة لم تنجُ منها حتى الثياب وألعاب الأطفال.

صدمتني الزنجيلي وما حدث في الموصل القديمة. لم أستطع تجاوز الأمر في وقتها. آلاف المدنيين الذين صاروا وقودًا لهذه الحرب، جميع القصص التي تسمعونها عن الكارثة الإنسانية في الموصل تختزلها نظرة واحدة في وجه أي ناجٍ من المعارك. الأحياء كمثل مريض خرج توًّا من عملية جراحية كبرى لاستئصال ورم خبيث وما زال تحت تأثير المخدر. مرت حروب كثيرة على العراق لم تؤثر عليَّ كما فعلت مشاركتي في تغطية معاناة النازحين وضحايا الحرب مع اللجنة الدولية خلال السنتين الماضيتين في محافظات الأنبار وصلاح الدين وآخرها الموصل.

تغطية كانت كافية لتصيبني بصداع مزمن، رجح الأطباء أن يكون سببه تأثري بما شهدته من حالات صادمة ومرعبة يوميًّا! انتهت الحرب وبقيت مآسيها حاضرة بشدة في نفوس وأماكن كثيرة.

رأيت مشاهد منعتني- ولا تزال- من النوم، فكيف بالذي عاش المأساة كاملة وشهد هلاك بعض من عائلته وأهله فيها؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى