تعليم العلوم اساس مخرجات التربية.. والحل بالتخطيط
تعليم العلوم اساس مخرجات التربية.. والحل بالتخطيط
أ.د. محمد الربيعي
منذ صدور قرار وزارة التربية باعتماد نظام تعدد التعليم العلمي، وانا في حالة من الاندهاش والاستغراب لعدم اعارة الموضوع اي اهتمام من قبل التربويين والمدرسين، ولعدم وجود اي ردود فعل سلبا او إيجابا، اذ توقعت ان يثير مثل هذا القرار حالة من الجدل والنقاش خصوصا بين المهتمين بالتربية والتعليم، ولكن شيئا من ذلك لم يحصل. كيف يمكن لمثل هذا القرار ان يمر مر الكرام من دون تمحيص، واشادة او تقريع؟ هل مثل هذا الاهمال دليل آخر على اليأس الذي اصابنا من امكانية التأثير على اصحاب القرار، او لأنه قرار لا يمس مباشرة جيوبنا او امننا الحياتي، او لأننا اعتدنا على مثل هذه القرارات الاعتباطية التي تشرع اليوم وتلغى في اليوم التالي؟ المفارقة في الموضوع ان وزير التربية الدكتور محمد اقبال اعتبر اصدار القرار “لحظة فارقة في تطبيق أرقى النظم والقوانين في ميدان التربية ولأول مرة وبشكل غير مسبوق”. لا اشكك في النيات الصادقة والرغبة المخلصة في تطوير التعليم وإخراجه من أزمته الراهنة، ولكن المشكلة ان هذا القرار لم ينتج عن تجربة سابقة، ولم يتم تطبيقه على نطاق محدود قبل الاقرار بتطبيقه على عموم الوطن، ولم تجرى مناقشته بصورة وافية من قبل التربويين والمدرسين، ولم تستعرض اسبابه ومسبباته قبل ان يوصف بانه “سيحرر العملية التربوية في العراق من النمطية والرتابة، ويقلل من معدلات الرسوب والتسرب والاختناقات، ويحسن المعدل”. فكيف توصل الوزير الى هذا الاستنتاج؟ وما هي القناعات والتبريرات التي ادت الى اعتبار هذا النظام التربوي أفضل نظام تربوي ملائم للعراق؟
القرار الذي اتخذته الوزارة يقسم المواد الدراسية في الفرع العلمي الى احيائية وتطبيقية بالنسبة للصف الخامس والسادس العلمي، وسيتبعه لاحقا قرار بتقسيم الفرع الادبي الى قسمين وبذات الآلية. ويبدو واضحا ان الوزارة تعتقد بصورة جازمة بان التقسيم سيؤهل بصورة أفضل خريجي الدراسة الاعدادية للدراسة في الكليات العلمية حيث سيتم اقتسامهم الى مجموعة “إحيائية” تتوجه الى دراسات الطب، والطب البيطري، وطب الاسنان، والصيدلة والاحياء، بينما تتوجه المجموعة “التطبيقية” الى دراسات الهندسة والزراعة والاقتصاد والتربية والعلوم والكليات التقنية. وعلى افتراض ان المناهج الدراسية ستكون مختلفة نوعا ما لكل مجموعة وبما يتناسب مع احتياجات التخصصات الجامعية من تعليم اساسي وبصورة مماثلة للتقسيم الحالي الى الفرعين العلمي والأدبي ولكن بصورة أكثر تخصصا. وبحيث سيكون لدينا في نهاية المطاف اربعة فروع دراسية تحدد توجهات الطلبة لنوع الدراسات الجامعية.
يدفعنا هذا القرار لطرح عدد من التساؤلات والاعتراضات على الوزارة التي يبدو انها تملك الصلاحيات في اقرار القرارات التربوية بالرغم من اعتقادي ان قرارا بمثل تعديل النظام التربوي الحالي لابد ان يخضع الى موافقة البرلمان.
1-لماذا تعتبر الوزارة ان مجرد حذف او اضافة بعض المواضيع الى منهج الدراسة الاعدادية هو تطبيق “لأرقى النظم والقوانين في ميدان التربية”؟
2-ما علاقة تقسيم المواد الدراسية الى قسمين “بالنمطية والرتابة” التي يعاني منها النظام التربوي العراقي؟
3-لماذا لم تعتمد الوزارة نظام تقسيم الفرع العلمي الى دراسة “طبية” و “هندسية” و “زراعية” او الى دراسة “اكاديمية” و “مهنية” او الى “جامعية” و “تقنية” او الى اي نظام اخر بديل لا يفترض دخول جميع مخرجات التعليم الاعدادي للجامعات؟
4-لماذا لا يتم دمج الفرعين العلمي والادبي واضافة سنة تحضيرية اختصاصية لمن يرغب في دخول الجامعة ولمن تؤهله معدلاته لتحقيق مثل هذه الرغبة؟
5-كيف يمكن لمجرد اضافة تقسيم اخر للتقسيم الحالي من “تقليل معدلات الرسوب والتسرب والاختناقات ويحسن المعدل”؟ وإذا كان هذا التبرير صحيحا فلماذا لا يتم زيادة التقسيمات بحيث تصبح لكل اختصاص جامعي متطلبات دراسية خاصة به وذلك عن طريق نظام الاختيار المتبع في النظام التربوي البريطاني؟
6-في الوقت الذي تهتم به دول العالم بالتعليم المهني والتقني وتعتبره الاساس في تأهيل القوى العلمية العاملة لاشغال الوظائف التي يحتاجها سوق العمل وفي سبيل تطوير اقتصاداتها نرى ان زيادة تقسيم الفرعين العلمي والادبي الى اربعة فروع على اساس الخيارات الجامعية سيزيد من معضلة التدريب المهني والتقني خارج إطار التعليم الجامعي.
7-كيف يمكن ان يؤدي زيادة تقسيم الفرعين العلمي والادبي الى “اختصار المواد وحصرها علميا ” وتقليل “النفقة المالية التي تكلف الوزارة كل عام نتيجة طباعة مئات الصفحات الخاصة بالكتب المنهجية” كما تدعي الوزارة؟ الا يمكن منطقيا ان يؤدي هذا التقسيم الى زيادة النفقات المالية بدلا من تقليلها وزيادة الاختلاف في المناهج بدلا من اختصارها؟
8- هل يتفق هذا القرار مع الإستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم العالي للسنوات 2011 – 2020 والتي تؤكد على ضرورة التنسيق بين نوعية وكمية مخرجات التعليم الثانوي والتخصصات العلمية والانسانية في الجامعات ، وتقترح تعديل هيكلية خريجي الدراسة الثانوية وذلك بفتح فروع جديدة لتنسجم واحتياجات سوق العمل في ضوء التطورات التقنية، وترى اهمية ايجاد نظام متكامل للتأهيل يشمل الاختصاصات المهنية والتقنية في الوقت الذي يتوجه فيه اكثر من 30% من خريجي الفرع العلمي (اي نصف نسبة خريجي الفرع العلمي) للدراسة في الكليات الادبية والانسانية.
9-إذا كان هدف القرار هو “تطبيق أرقى النظم والقوانين في ميدان التربية” كما تدعي الوزارة فلماذا لم تتبع نظام التعليم في فنلندا وهو الذي يعتبر أرقى نظام تعليمي في العالم وفيه ينقسم التعليم الثانوي الى قسمين فقط أحدهما الفرع الأكاديمي والاخر الفرع المهني وكلاهما يؤديان الى مرحلة التعليم الجامعي وحسب خيار الطالب. او كما هو عليه في سنغافورة والتي هي ايضا تملك نظاما من أفضل انظمة التعليم في العالم ويشمل كما هو عليه في فنلندة فرعين أكاديمي وتقني يدرس في الاول مواضيع علمية بالاضافة الى مبادئ المحاسبة وفي الثاني مواضيع تقنية كالتصميم والتكنولوجيا، ومع ذلك يدور حاليا نقاش حاد حول ضرورة الغاء التقسيم ودمجه في فرع واحد لتسبب نظام التقسيم في تأثيرات نفسية مضرة عند الطلاب السنغافوريين.
يبدو ان العلة في نظام التعليم العراقي ليست في تقسيم المنهج الى علمي وادبي، وانما في المناهج وطرق التدريس والتعلم، التي لم تعد تتماشى مع الرؤى والأهداف القائمة على توفير متطلبات تقدم المجتمع العصري التقني بما يجعله منافسا للمجتمع العالمي القائم على اقتصاديات المعرفة.
ويبدو ايضا ان الوزارة بالتأكيد على اهمية تقسيم المواد الدراسية واعتبارها الحل السحري لدرء كارثة تدهور التعليم لازالت متريثة في معالجة اهم مشاكل التعليم كالتلقين والاجترار التي ابتلت بها طرق التدريس والامتحانات والتي ادت الى ظهور اجيال من المعاقين معرفيا، وكذلك في ضعف اسس التربية الاخلاقية بما فيها الجوانب الوجدانية والسلوكية، وارتفاع نسبة الاكتظاظ في الصفوف والقاعات الدراسية، وضعف نوعية ومهارات المدرسين، والبيئة المدرسية غير المناسبة، والنقص الهائل في التجهيزات المدرسية.
لقد ابتلت المدرسة العراقية باسلوب التلقين والاجترار والذي أصبح معيقا لأي عملية تطوير او اصلاح، ولكي يتخلص النظام التعليمي من هذه المشكلة لابد له من الانتقال كليا من عملية التعليم الى عملية التعلم والتي تضع الطالب في المركز وتهدف الى تعليمه مهارات التعلم والقابليات،وسيحتم هذا التغيير علينا هجرة كثير من افكار الماضي وتحديث طرق التدريس والمناهج بما فيه ادخال تعديلات وتحويلات وتفكيك الاساليب التربوية والمنظومات الفكرية القديمة ونبذ المناهج التلقينية والنقلية، والاهتمام بالتربية الاخلاقية. ان غاية المدرسة اليوم يجب ان تكون تعلم وليس تعليم الطلاب وبأية طريقة يمكنها من تحقيق ذلك فمنهج التعلم يحفز اكتشاف واستنباط المعلومات عند الطالب، ويخلق بيئة تعلمية قوية ، ويهتم بتطوير نوعية التعلم ، ويعتبر بيئة التعلم اهم من ساعات التدريس باعتمادها على التعاون والمشاركة، والشهادة تعتمد على المعلومات والمهارات المكتسبة، والمعلومات تساوي خبرة الطالب وتركز على التعليم الناتج عن فعالية ما، لا على الفعالية نفسها، وعلى المهارات والقدرات الرئيسية، كما تعبر عن الرسالة التعليمية للمدرسة وعن القيم التي تمثلها. ويعبر عن هذه المخرجات افعال يجب على الطلبة تفعيلها فتقوم بعملية الربط بين الاهداف والنتائج ومنها يتم معرفة مدى تفهم الطلاب لمواد المنهج.
انتج نظام التعليم العراقي اجيالا من “الحفاظين” وجعلهم في قمة الهرم التعليمي وضمن لهم ارقى الشهادات، وفي الوقت ذاته بخس حق ” المبدعين والمبتكرين”، من الذين وجدوا ان قابلياتهم لا تتناسب واسلوب التدريس، والامتحانات التي تعتمد على التلقين واجترار المعلومات، دون الاهتمام بالعمل الجماعي وبقياس مهارات التطبيق والتحليل والتوليف والاستنتاج والتقييم والتخطيط والنقد والتخليق ، واصبح الطبيب لا يختلف عن الشاعر والواعظ من حيث استذكاره لمعارف اكتسبها من ملزمة محدودة المعلومات في بضعة صفحات، فالذكاء بحسب النظام التربوي العراقي ليس الا مقياس لدرجة حفظ وترديد المعارف وتسجيلها وتسميتها واستذكارها وتعديدها.
هذا ما احببت طرحه حول زيادة عدد الفروع الدراسية في المدارس الاعدادية، وسأعود الى الموضوع إذا ما طرحت مفردات المناهج التعليمية لهذه الفروع للمناقشة العامة لغرض إثراء الحوار حولها، وهدفي هو تطوير الرؤية المستقبلية لقطاع التربية والتعليم وردف عملية التخطيط الصحيح المبني على رؤى عالمية ودراسات محلية.
نشرت في جريدة الصباح 28/10/2015 على الرابط ادناه
اضغط هنا